بسم الله الرحمن الرحيم
الايمان الحركي
إن المتصفح لآيات القرآن الكريم، آية، آية، يقف على كم هائل منها توجه المسلم خاصة والإنسان بصفة عامة إلى السير على الصراط المستقيم "الذي من لم يسر عليه كان من المنقطعين الهالكين".ذلك أن هذا الصراط قد حكم الله تعالى على ملتزميه ومقتفيه الصلاح والفلاح، دنيا وأخرى،قال تعالى:وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.، و قال ابن مسعود رضي الله عنه:«خط لنا رسول الله (ص) يوما خطا، ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه ويساره، ثم قال:«هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه... ».، فطريق الله واضح المعالم ليس فيه غبش، وليس فيها اعوجاج، فالعبد إذا وضع (قدميه) عليه سار سيرا موفقا، لكن«قال رسول الله؟ من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»، فيال فرحة الطائعين ويا لتعاسة الغافلين!!
أحبتي في الله، هذه سطور كتبتها بيدي، وأسقيتها من حبي، واعتمدت في هذا وذاك على ربي، أرجو أن تجد منكم قلبا واعيا وإحساسا وفيا، وهي في موضوع الإيمان، أحاول أن أتلمس مفهومه وأتطرق إلى صوره وتمثلاته، والعلاقة بينه وبين العمل بما هو فعل الجوارح . والله الموفق سبحانه!!
أولا: ما الإيمان؟
قال الإمام الرازي في "مختار الصحاح" «الإيمان التصديق». الذي لا يكون إلا بالقلب، الذي إن صلح وصفا، تبعه بالطاعة والاستقامة الجسد والجوارح، لذلك قال المصطفى-عليه السلام- «...ألا و إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»( ).
فالإيمان إذن هو التصديق في اللغة، أما في الشرع، فقد قال الإمام البخاري، في الباب الأول من كتاب الإيمان من صحيحه « وهو قول وفعل، ويزيد وينقص قال الله تعالى:ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [الفتح4]، وزدناهم هدى [الكهف13]، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى [مريم76]، والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم [محمد17]» ( ).
فالإيمان كما قرر سلفنا الصالح يزيد بالطاعات والقربات، وينقص بالمعاصي والزلات، فهذا معتقد سلفنا الصالح.
وقد عرفه العلامة المجتهد "يوسف القرضاوي" بقوله:«إن الإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك وإرادة ووجدان». كما أن هذا الإيمان يكون بأطراف ثلاثة. قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني:«(باب) ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات، من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان...»، وقال الشيخ محمد حسان:«..لا بد من الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، والعمل بالجوارح والأركان...» . ولا غرابة في حصر ابن أبي زيد القيرواني للإيمان في القلب واللسان، لأنه إنما فصل ما ترجم له في الباب، وإلا فإن الإيمان يسري على (أركان) ثلاثة وهي: القلب واللسان، ثم الجوارح. ولابد من الوقوف عند ما قرره الرسول(ص) في الحديث الصحيح:«...الإيمان؛ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره...» . قال الشيخ محمد بن جميل زينو:«قال جبريل، فأخبرني عن الإيمان؟
فقال رسول الله(ص) الإيمان؛
1) أن تؤمن بالله: (الاعتقاد بأن الله خالق ومعبود بحق، له أسماء وصفات تليق بجلاله، لا يشبه مخلوقاتهليس كمثله شيء)،[الشورى11].
2) وملائكته: (مخلوقات من نور، التنفيذ أوامر الله ، لا نراهم).
3) وكتبه: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن ناسخها).
4) ورسله: ( أولهم نوح، وآخرهم محمد(ص) ).
5) واليوم الآخر: (يوم الحساب لمحاسبة الناس على أعمالهم).
6) تؤمن بالقدر خيره وشره
الرضا بما قدره الله مع الأخذ بالأسباب) .
ومن هنا، يمكن القول إن محتوى الإيمان الصادق هو الذي «صحب البشرية منذ طفولتها، ولم يفارقها في صباها وشبابها وكهولتها، ولم يزل سلطانها مهيمنا على الكثير من تصرفاتها وأعمالها. إنه الإيمان الذي يتجسد في خاتمة العقائد السماوية، عقيدة الإسلام، كما بينها القرآن الكريم، وهدي الرسول العظيم، متمثلة في الإيمان بالله، واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين(...) والعناصر الأساسية لهذه العقيدة (الإيمان بالله، والإيمان بالنبوات، والإيمان بالآخرة».
فبعدما تعرفنا على مفهوم الإيمان انطلاقا من اللغة ونصوص القرآن والسنة، يمكن القول، إنه لا إيمان إلا لمن اتبعه بالبرهان الواقعي، والمنهج الحياتي إذن
ما هي صور الإيمان؟
إن كل الآيات القرآنية الواردة في موضوع الإيمان، لم تأت منفردة لوحدها، ولكنها أتت مقرونة بالعمل الصالح، مما يستدعي الوقوف على هذا التصور القرآني والإسلامي لمفهوم الإيمان، وبيان صوره وتمثلاته، انطلاقا من بعض النصوص. والموفق من وفقه الله تعالى!!
يقول الدكتور فريد الأنصاري-رحمه الله- في معرض حديثه عن جمالية الدين « ...الإيمان الذي يسكن نوره القلب ويغمره، كما يغمر الماء العذبُ الكأس البلورية، حتى إذا وصل إلى درجة الامتلاء، فاض على الجوارح بالنور، فتجمل الأفعال والتصرفات التي هي فعل الإسلام...» .
أولا: من صور الإيمان حب الخير للناس
لأن الإنسان المسلم كالوردة الحقيقة يفوح أريجها أينما حلت وارتحلت، حتى وإن يبست، فإن رائحتها زكية تنفع الآخرين، لذلك قال النبي (ص)«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
ثانيا: حب الله والرسول من الإيمان
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله (ص) قال: «فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدهم حتى أكون أحب إليه من والده وولده».
قال ابن تيمية:«وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه، فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول (ص) إنما يحب لأجل الله: أو يطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله، كما قال تعالى: قل إن كنتكم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله... ...» ، فكلام ابن تيمية يعد فيصلا في أمر قد يغفل عنه الكثيرون، وذلك إما لحبهم الشديد أو جهلهم كذلك، وهو أن بعض المسلمين قد يصل بهم الأمر إلى تأليه النبي (ص) بوعي أو بدونه، لكثرة الأصداء المعلية بانتسابها لمحبة النبي –عليه السلام- لكنه(ص) حسم الأمر ليبقى المعبود هو الله وحده، لا شريك له، ولو كان نبيا مرسلا، أو ملكا مقربا، أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله». لذلك قال العلامة الشنقيطي-رحمه الله:« إعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى ، التي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي (ص) ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ما جاء به النبي(ص) في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة».
وباختصار شديد ينبغي تبني الوسطية الإسلامية التي دعا إليها الإسلام وبقواعدها القرآنية والسنية في كل الأمور، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بمحبة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
ثالثا: استعذاب الإيمان؛
فالإنسان ميزه الله بالحس والذوق، فلا يقبل من الأمور إلا ما استساغه ذوقه وحسه، وكذلك في الإيمان، فإن له حلاوة لا يدركها إلا من اصطفاه الله تعالى لذلك، فما معنى حلاوة الإيمان؟
قال الإمام النووي-رحمه الله تعالى: «معنى الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق وإيثار ذلك على أغراض الدنيا ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول(ص)».
وقال شيخ الإسلام –رحمه الله: «فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وتفريغها أن يحب المرء لا يحبه إلا الله.
ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان(وهو الكفر)، كما يكره أن يقذف في النار- انتهى ملخصا.
وكلام شيخ الإسلام إنما هو شرح لحديث رسول الله(ص) الذي رواه الشيخان عن أنس بن مالك- رضي الله عنه-عن النبي(ص) قال« ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار»، ولنا في القرآن الكريم أمثلة على هذا الحب الراقي الإيماني، فمثلا، كان سحرة فرعون طغاة متجبرين يدعون ما لا يليق إلا بالله، من قدرة وإحياء وإماتة. لكن لما دخل نور الإيمان قلوبهم وتذوقوا حلاوته –بفضل الله- أصبح فرعون الطاغية في أعينهم حشرة لا يساوي شيئا، لذلك قالوا له في عزة وافتخار بإيمانهم: قالوا لن نوثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقتضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهنا عليه من السحر والله خير وأبقى . قال عكرمة: « لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، فلذاك قالوا، ما قالوا».
وقال ابن عباس:« كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة».
رابعا : الحياء من الإيمان
آه من تفريط الأمة في هدا الخلق العظيم، النادر في هذا الزمن، زمن الفتن والبلايا والمحن، نحن اليوم نعيش أياما عصيبة يشتكي فيها الحياء بعد المسلمين عنه وجفاءهم منه، لكن ما الحل؟
الحل في قرآن ربنا وسنة نبينا، قال(ص):«الحياء لا يأتي إلا بخير». وقال (ص): «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه.
قال العلامة ابن عثيمين:«الحياء انكسار يكون في القلب ، وخجل لفعل ما لا يستحسنه الناس، والحياء من الله، والحياء من الخلق من الإيمان؛ فالحياء من الله يوجب للعبد أن يقوم بطاعة الله، وأن ينتهي عما نهى الله، والحياء من الناس يوجب للعبد أن يستعمل المروءة، وأن يفعل ما يجمِّله ويزيّنه عند الناس، ويتجنب ما يدنسه ويشينه، فالحياء كله من الإيمان».
كما أن الحياء هو خلق الإسلام قال(ص) :«إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء، [مالك]. كما أن" للحياء مواضع يستحب فيها، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش، وأن ينزه لسانه عن العيب، وأن يخجَل من ذكر العورات، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها».
خلاصة:
إن الإسلام دين العالم عربه وعجمه، وقد جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. ومن الضلال إلى الهداية، ومن الغي إلى الرشاد، وذلك بتغيير ما ترسب في أذهان وعقول الناس من مظاهر ومعتقدات الشرك الفاسدة، وكل ما يبعدهم عن تحقيق التوحيد الصافي الذي لا يشوبه شيء من ضلالات الجاهلية الأولى والحديثة المعاصرة. والسر في هذا هو الإيمان الذي يلامس القلوب بعبقه الرباني وأريجه النبوي، فينطلق مفعوله على الجوارح والأركان، ليصير بإذن الله منهج حياة وواقع حياة معيش، لذلك الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
والله الموفق للهدى والرشاد!!
إعداد الطالب محمد قاسمي