قال رحمه الله في المسألة الأولى من كتاب الاجتهاد:
" الاجتهاد على ضربين :
أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف, وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. "
هكذا على سبيل الإجمال!! لينتقل بعد ذلك رحمه الله إلى التفصيل؛ مبينا أن الاجتهاد الذي لا ينقطع - أي النوع الأول – هو ما تعلق بتحقيق المناط. قال رحمه الله: " ومعناه أن يثبت الحكم بمُدْركه الشرعي ( أي بأحد طرق دلالة النص على الحكم الشرعي)لكن يبقى النظر في تعيين محله."
ثم مثل رحمه الله لهذا النوع بتعيين العدالة وتحديدها... قال رحمه الله ذلك أن الشارع إذ قال: * وأشهدوا ذوي عدل منكم * وثبت عندنا معنى العدالة شرعا(وهي " ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى و المروءة " ويحصل ذلك باجتناب الكبائر, وترك الإصرار على الصغائر , وكذا بصون النفس عن الأدناس, وما يشينها عند الناس... يقول ابن عاصم رحمة الله عليه في تحفته:
والعدْلُ منْ يجتنبِ الكبائرَ ويتقي في الأغلبِ الصغائرَ.)؛ افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة, وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء, بل ذلك يختلف اختلافا متباينا .. الخ"
وقد استدل رحمه الله على عدم جواز انقطاع هذا النوع بمجموعة من الأدلة على رأسها الحاجة الملحة للتشريع الإسلامي إلى الاجتهاد في تحقيق المناط , يبين وجه ذلك رحمه الله بقوله :" ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدة, وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر, ومع ذلك , فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ...."
و الدليل الثاني أن في انقطاع هذا النوع إبقاءٌ للأحكام الشرعية مجرد نظرية ذهنية ليس لها أي أثر أو تعلق بأفعال المكلفين...
بعد ذلك تناول رحمه الله الضرب الثاني من ضروب الاجتهاد , وهو الذي يمكن أن ينقطع . وقد أدرج ضمنه ثلاثة أنواع :
1- تنقيح المناط : ومعناه " أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص , فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى , كما في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره."
2- تخريج المناط :" وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط , فكأنه أخرج بالبحث..."
3- النوع الثالث من الاجتهاد الذي ينقطع هو أيضا متعلق بتحقيق المناط ؛ إلا أن الذي لا ينقطع تحقيق عام وهذا خاص, كيف ذلك ؟؟
قال رحمه الله : " الأول- أي الذي لاينقطع – نظرٌ في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما , فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا , ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له ؛ أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة. وهكذا إذا نظر في الأوامر و النواهي الندبية, والأمور الإباحية( المباحة), ووجد المكلفين و المخاطبين على الجملة, أوقع عليهم تلك النصوص, كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة, فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في النظر.
أما الثاني , وهو النظر الخاص - أي الذي ينقطع – فأعلى من هذا وأدق, وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا." وقد يعبر عنه بالحكمة, ويشير إليها قولُه تعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء, ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ." ........ - إلى أن يقول رحمه الله تعالى- وعلى الجملة؛ فتحقيق المناط الخاص نظرٌ في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية, بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان , ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة , حتي يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدةً بقيود التحرز من تلك المداخل, هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره( يريد رحمه الله بالتكليف المنحتم الواجب).
ويختص غير المنحتم ( النفل) بوجه آخر , وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه, بحسب وقت دون وقت, وحال دون حال, وشخص دون شخص, إذ النفوس ليست في قبول الأعمال على وزان واحد..... فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها, وقوة تحملها للتكاليف ... ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أوعدم التفاتها , فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها, بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف ..."
وبعدُ ! فلا بد من الإشارة إلى أن مرتبة هذا التحقيق الخاص تأتي بعد تحقق العام في الشخص الذي يُنظر فيه بالنظر الخاص. فلو لم يكن ممن ينطبق عليهم تعلق التكليف من الوجهة العامة بهذا النوع من العمل؛ لا يكون هناك محل للنظر الخاص في أنه يناسبه أو لا يناسبه...
كذلك قدم الشاطبي رحمة الله عليه تقسيما آخر للاجتهاد من وجهة نظر أخرى
فقال رحمه الله :
" الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:
أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعا, وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا( أي تقووا واهتموا بمعرفة...يقال أضلع بحمله, أي قوي عليه ونهض به.) بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد ...
والثاني: غير المعتبر , وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض, وخبط في عماية, و اتباع للهوى , فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزله الله كما قال: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم".
وقال تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله".