بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه...
أما بعد :
فهذا تعريف الإمام الشاطبي يرحمه الله للاجتهاد, جمعته من بعض الدراسات الأصولية التي بحثت في الموضوع؛ رغبة في اختصار الوقت, ونزولا عند رغبة بعض الطلبة _ زادهم الله حرصا_ ...
فالله أرجو أن يوفق الجميع للخير ويعيننا عليه...
تعريف الاجتهاد عند الشاطبي:
يمكننا أن نلتمس تعريف الشاطبي للاجتهاد في موضعين من كتابه الموافقات:
الأول قوله رحمه الله: "الاجتهاد: هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم". والثاني قوله - الاجتهاد-: هو استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد، في طلب مقصد الشارع المتحد".
والملاحظ أن هذين التعريفين لا يتناقضان بقدر ما يتكاملان؛ إذ يمكننا أن نركب منهما تعريفا واحدا يكون على الشكل التالي:
" الاجتهاد: هو استفراغ الوسع، وإبلاغ الجهد، في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، طلبا لمقصد الشارع المتحد"
فهو إذا تعريف مركب من تعريفين كما سبق...
• قوله " استفراغ الوسع ..." أبلغ في المعنى من قول بعضهم بذل، لأن الاستفراغ في اللغة بذل أقصى الجهد ومنتهاه...، وهو بذلك - أي الشاطبي- يوجب على المجتهد إحكام الاستدلال وإتمام طلب الدليل حتى يعذر وتبرأ ذمته، ليس بمجرد الوقوف على هذه الأدلة فحسب؛ بل بقطع احتمالاتها، وحسن ترجيح راجحها، وبيان مرجوحها, وكذا بتنزيل ذلك كله على المحل المناسب، أي ربط الدليل بمدلوله الخارجي الحقيقي...
قال الشاطبي رحمه الله: "لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا؛ حتى يبحث عن مخصصه، وعن المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا، إذ كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما، فالعام مع خاصه هو الدليل"
• قوله "في تحصيل العلم أو الظن بالحكم" هو الغاية من استفراغ الوسع، يعني الغاية الوظيفية التي من أجلها اجتهد المجتهد.
وقد جمع في هذه العبارة بين ما كان سبيله الظن في العملية الاجتهادية, وهو الغالب فيها، وبين ما كان سبيله العلم, على قلته وندرته، ولذلك لم يُشرإليه في غالب تعريفات الأصوليين للاجتهاد، ليس لانعدامه، ولكن لندوره. فخرج تعريفهم للاجتهاد بالظن مخرج الغالب (أي باعتبار غالب ما عليه العملية الاجتهادية).
وبذلك يكون رحمه الله قد خرج من انتقادت اتجاهين في تعريف الاجتهاد ، ففريق يرى الظنية، وآخر يرى العلم، والصحيح شمولهما معا...
• قوله رحمه الله: " في طلب مقصد الشارع المتحد " أشار بذلك إلى الخاصية المقاصدية للتعريف, وهي ترمي إلى بيان ثلاثة أمور:
1- أن المجتهدين مهما اختلفوا فإنهم متفقون من حيث القصد, أي إن قصدهم جميعا واحد, وهو إدراك قصد الشارع...
2- أن قصد الشارع من الدليل مهما تعددت الدلالات و الاحتمالات إنما هو واحد ! فالاجتهاد إذن هو بذل غاية الوسع في طلب مقصد الشارع الذي يكمن وراء إصابة الحكم الشرعي...
3- حصول ( مقصد الشارع المتحد) لا يتم حقيقة إلا بعد تنزيل الحكم على الصورة الموافقة , أي بعد تحقيق مناطه....